Page 1 of 1

بحث في : التعليم العالي في العراق

Posted: Wed Jan 19, 2011 3:14 pm
by Al-Wahedi
بحث في : التعليم العالي في العراق / النشاة الاولى ، الهموم والتطلعات
بتاريخ : الأربعاء 19-01-2011 02:19 مساء


د . عامر صالح
الجزء الاول
ملاحظات تمهيدية:
من الناحية الإجرائية أن التعليم العالي هو المرحلة الثالثة من مراحل التعليم المختلفة، وتعني هذه المرحلة بأعداد الكوادر المؤهلة للعمل التخصصي، كما تساهم في إعداد الكوادر البحثية والتعليمية لهذه المرحلة فيما يعرف ببرنامج الدراسات العليا والبحث العلمي، وتأتي هذه المرحلة عادة بعد التعليم الثانوي بمختلف فروعه " علمي، أدبي، مهني وغيره "، أي أن تكون القاعدة التعليمية الأساسية للانتساب إليه 12 سنة دراسية على الأقل : 6 سنوات ابتدائية و 6 سنوات ما بعدها (3متوسطة + 3 ثانوية)، وقد تختلف هذه المسميات من بلد إلى آخر أو قد تطول بعض المراحل أو تقصر ولكنها محصورة على الأعم الأغلب بهذا السقف الزمني، وتتنوع مستويات التعليم العالي : من دبلوم عالي، إلى بكالوريوس، إلى ماجستير والى دكتوراه، وعلى قاعدة 2 سنة دبلوم عالي، 4 سنوات بكالوريوس، 2 سنة ماجستير و3 دكتوراه، وهو الشائع عالميا كما في العراق، مع الأخذ بنظر الاعتبار الاختلافات في أنظمة الدراسة.
واستنادا إلى ذلك وبما أن الوصول إلى التعليم العالي يتصل اتصالا وثيقا ومباشرا بالمراحل السابقة له، فأن عملية إصلاحه تستدعي وتوجب النظر إلى التعليم كمنظومة متكاملة الحلقات تبدأ من رياض الأطفال حتى المرحلة الجامعية، بحيث أن كل مرحلة تمهد للمرحلة التي تليها وتعد لها، ونعتقد أن هذا الأمر غائب عن الجهات المعنية بالتربية والتعليم العالي في العراق، ومرد ذلك إلى غياب الفكر التربوي الاستراتيجي المنظم لعملية إصلاح المنظومة التربوية والتعليمية ابتداء من الرياض وانتهاء بالجامعات. وقد كتبت في مقال سابق لي بعنوان " مهمات عاجلة أمام البرلمان القادم لإصلاح منظومة التربية والتعليم " وقد ذكرت فيه جوهر الخطوات اللازمة لإصلاح نظام التربية والتعليم بمختلف مراحله وضرورة النظر إلى العملية التربوية والتعليمية ككل غير قابل للتجزئة!!!.
وعلى هذا الأساس فأن إصلاح التعليم العالي دون إعادة النظر في المراحل السابقة له يعتبر نوع من العمل العبثي والقطيعة بين أجزاء الجسد التربوي والتعليمي الواحد، وبالتالي نقول انه لا يمكن انجاز أي تقدم حقيقي في إصلاح شامل للتعليم في العراق دون النظر إلى مختلف عناصر العملية التربوية والتعليمية وفي كل مرحلة من مراحلها، وهي تتمثل في المناهج الدراسية ومحتواها، والمدرسين الذين يقدمون هذه المناهج ونظم إعدادهم، وأساليب التدريس، ووسائل التقويم، والإدارة التعليمية ابتداء من إدارة المدرسة إلى إدارة الجامعة والى إدارة وزارتي التربية والتعليم العالي، والمرافق والمؤسسات التعليمية من حيث طبيعة تصاميمها الملائمة لظروف العلية التربوية والتعليمية، والطاقة الاستيعابية للفصول الدراسية المختلفة، والنشاطات الصفية واللاصفية من ترويح وسفرات وفنون وموسيقى، وكذلك الاستخدام الواسع لتكنولوجيا التعليم وتقنية المعلومات وشبكات الانترنيت التربوية واستخدام الكمبيوتر على نطاق واسع. وعلى هذا الأساس فأن الإصلاح لابد أن يشمل مختلف العناصر المكونة للعملية التربوية والتعليمية وفقا لرؤيا شاملة تأخذ بنظر الاعتبار حقيقة الترابط والتداخل بين مختلف عناصر المنظومة التربوية والتعليمية، وهو الأمر المفقود في غاية خطط وبرامج إصلاح قطاعي التربية والتعليم العالي في العراق !!!.
وعلى خلفية هذا الفهم المعاصر للإصلاح تأتي أهمية إصلاح التربية والتعليم بصورة عامة والتعليم العالي بشكل خاص باعتباره الأداة الإستراتيجية التي يعتمد عليها في تقدم المجتمعات وحل مشاكلها الحاضرة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وصنع مستقبلها وترسيخ مكانتها بين الأمم في عصر لايعترف إلا بالأقوياء والأقوياء في هذا العصر هم أولئك الذين امتلكوا ناصية العلم والتكنولوجيا والبحث العلمي، والتي كانت النظم التعليمية وخاصة العالية من ورائها ومن العوامل التي ساعدت على تطويرها، ونحن إذا ما تتبعنا تاريخ النهضات الاقتصادية للدول المتقدمة، فأننا نجدها ترجع من قريب أو بعيد إلى عوامل التربية والتعليم والتأهيل والى النظم التعليمية المتطورة، والى التعليم العالي بشكل خاص.
ولذلك وللأسباب المذكورة أعلاه أصبح الإنفاق على التعليم بصورة عامة وعلى العالي والبحث العلمي بشكل خاص هو من باب الاستثمار ذو العوائد طويلة الأمد، وليست من باب الاستهلاك على نسق ما ينفق على السلع والبضائع الكمالية، وأن ما ينفق على التعليم هو توظيف مثمر للموارد ويؤتي ثماره مضاعفة ويؤدي إن أحسن استخدامها إلى عائدات اقتصادية تفوق العائدات الاقتصادية للمشروعات الصناعية والزراعية وسواها. وقد أكدت الدراسات ذات العلاقة بالاقتصاد التربوي والتي قام بها دينون الأمريكي وريداوي البريطاني وستروملين الروسي وهي تؤكد جميعها أن الزيادة في الإنتاج لا تعود فقط لزيادة رأس المال واليد العاملة بل يرجع إلى عوامل التقدم التقني والمعلوماتي وما وراءه من إعداد وتدريب وتعليم للموارد البشرية !!!.
ويكفي الإشارة هنا إلى ضئالة ما ينفق من مال على البحث العلمي في العالم العربي " استنادا إلى تقرير اليونسكو للعلوم للعام 2010 " حيث أكد التقرير أن الإنفاق على البحث العلمي في العالم العربي في اقل مستوى له في العالم، ففي الدول العربية الأفريقية وصل ما بين 0.3 و0.4 بالمائة خلال السنوات ما بين 2002 و 2007 من جملة الناتج القومي، بينما وصل الإنفاق في الدول العربية الأسيوية 0.1 بالمائة في الفترة نفسها، بينما وصل الإنفاق على البحث العلمي على مستوى العالم كمعدل 1.7 من جملة الناتج القومي، بينما تخصص البلدان التابعة لمنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي حوالي 2.2 بالمائة لأغراض البحث والتطوير، أما في إسرائيل فقد وصل الإنفاق العالمي على البحث العلمي والتطوير ما بين 4.6 و 4.8 خلال العام 2006 . فإذا كان مستوى الإنفاق هكذا في دول عربية تعتبر مستقرة نسبيا فما هي حال العراق بين هذه الدول، حيث الفساد المالي والإداري وسرقة الأموال التي تفرغ أي نسبة من التخصيصات المالية من محتوى فاعليتها واستخدامها بشكل صحيح، علما أن هناك إحصائية تؤكد أن ما يصرف على التعليم العالي من أموال " باستثناء رواتب الأساتذة التي تشكل 80 بالمائة من الإنفاق " هي أموال ضائعة !!!.
جذور التعليم العالي وملامح أزمته الحالية:
تمتد جذور التعليم العالي في العراق إلى سنة 1908 وهو العام الذي أسست فيه كلية الحقوق ثم توالى إنشاء الكليات والمعاهد العالية حتى تأسيس جامعة بغداد بعد قيام ثورة 14 تموز 1958 على اثر صدور قانون جامعة بغداد عام 1956 حيث كان رئيسها الأول الأستاذ الدكتور متي عقراي، ثم جاء بعده لرئاسة الجامعة عالم الفيزياء الدكتور عبد الجبار عبد الله الذي طور مسارها العلمي وجعلها تحتل المكانة المرموقة بين جامعات المنطقة والعالم وكانت تضم كليات: ( الحقوق، الهندسة، التربية، الطب، الصيدلة، الآداب، التجارة، الزراعة، الطب البيطري، والمعاهد العالية: العلوم الإدارية، اللغات، المساحة، الهندسة الصناعية العالي، التربية البدنية). ثم شرعت جامعة بغداد بمد نطاقها إلى مدن أخرى في العراق فأقامت في مدينة الموصل كليات: ( الطب، العلوم، الهندسة، الزراعة والغابات، الصيدلة، الدراسات الإنسانية ومعهدا للمحاسبة). وفي البصرة أقامت كليات: ( لتربية، الحقوق، الهندسة). ثم نشوء جامعتي البصرة والموصل في مطلع نيسان عام 1967 حيث أصبحت هذه الكليات نواة لجامعتي الموصل والبصرة،. وفي سنة 1970 صدر قانون التعليم العالي والبحث العلمي ذو الرقم 132 والذي بموجبه استحدثت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وأنشئ مجلس التعليم العالي ليتولى رسم السياسة التعليمية والعلمية والتقنية العليا للبلد، ومن ثم أنشأت جامعة صلاح الدين في اربيل وبعدها الجامعة التكنولوجية في بغداد عام 1974، كما فسح المجال لفتح الجامعات والكليات الأهلية بعد صدور القرار المرقم 184 في عام 1987 ، وفد بلغ عدد الجامعات والكليات الأهلية لحين سقوط النظام السابق 10 فقط " وفقا لمعلومات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ".
نستطيع القول أن مستوى التعليم العالي في العراق عند نهاية عقد السبعينيات كان متقدما مقارنة مع جامعات المنطقة، عندما كان هناك ست جامعات فقط هي : ( بغداد والمستنصرية والتكنولوجية والموصل والبصرة والسليمانية )، ولكن الأوضاع السياسية العامة كانت تحمل في طياتها نذير شؤم تجسده سياسات التبعيث والتضييق على الحريات الأكاديمية للأساتذة وتحويل مؤسسات التعليم العالي إلى بؤر للدعاية السياسية للحزب الحاكم، مما اخل بمعايير النزاهة والجودة وأفسد البحث العلمي وغاياته في هذه المؤسسات، تلتها سنوات من الحروب العبثية التي أقدم عليها النظام وسنوات حصار وتجويع أوقعت هذه المؤسسات في شللية كاملة عن أداء دورها في خدمة المجتمع والبحث العلمي، وفد بدأت في عقد الثمانينيات والتسعينيات ملامح الهجرة للكادر التدريسي إلى الدول العربية وترك الجامعات على خلفية تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية العامة !!!.
وتضم وزارة التعليم العالي والبحث العلمي اليوم 24 جامعة حكومية، 5 منها في بغداد، و 5 منها في إقليم كردستان والبقية موزعة على المحافظات العراقية، كما تضم الوزارة ثلاث هيئات للتعليم التقني واحدة في بغداد وأثنين في إقليم كردستان، وهيئة للاختصاصات الطبية وهيئة للحاسبات والمعلوماتية، كما أن هناك 26 جامعة وكلية أهلية تنتشر في عموم البلاد حسب إحصائيات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي للعام 2010 . وقد بلغ عدد الطلاب الكلي في التعليم العالي للعام الدراسي 2008 / 2009 ( 382869 ) طالبا للدراسة الأولية، و ( 14915 ) طالبا للدراسات العليا، وعدد التدريسيين ( 31990 ).
ويجب الإشارة هنا إلى أن 80 بالمائة من مؤسسات التعليم العالي في العراق تعرضت للتدمير والتخريب والنهب منذ بدء الاحتلال الأمريكي عام 2003 ،وعملية إعادة الأعمار الجارية تشمل فقط 40 بالمائة من مؤسسات التعليم العالي، بينما تتواصل هجرة الأساتذة والمعلمين إلى المناطق الأخرى، حيث غادر حوالي 40 بالمائة منهم منذ عام 1990 والتي بلغت عشرات الألوف، كما قارب عدد ضحايا الإرهاب والاغتيال منذ سقوط النظام السابق 300 كادر شملت كبار التدريسيين والأكاديميين من مختلف جامعات وكليات العراق، وقد تكثفت حملة الإرهاب ضد الأكاديميين في منتصف العام 2005 وبلغت ذروتها في العام 2006 ـ 2007 مما أدى إلى هجرة جماعية لعشرات الآلاف من المفكرين والعلماء والفنيين العراقيين وعائلاتهم إلى الخارج، وقد ذكرت ذلك بالتفصيل في مقال لي على الانترنيت بعنوان " قطاع التعليم العالي والبحث العلمي، ملاحظات على خلفية تعيين الوزير الجديد " !!!!.
ويمكن إيجاز ابرز ملامح تدهور قطاع التعليم العالي والبحث العلمي فيما يأتي:
ـ التدهور الأمني المستمر لمؤسسات التعليم العالي وتدخل رجالات الأحزاب والمليشيات الطائفية في شؤون التعليم العالي مما يضع طرفي العملية التعليمية : الطالب ـ الأستاذ والعملية التعليمية برمتها في دوامة عدم الاستقرار والخوف من المستقبل¸مما يترك أثره الواضح في تسرب الطلاب وهجرهم لمقاعد الدراسة وهجرة الكادر التدريسي.
ـ الإجراءات التعسفية في إقالة أو إحالة الكادر التدريسي الجامعي ومن درجات علمية متقدمة " أستاذ وأستاذ مساعد " على التقاعد بذرائع ومبررات واهية، منها كبر السن أو بتهمة عدم الكفاءة، وهي إجراءات تنفذ في الخفاء بواجهات سياسية أو انتماءات طائفية، وتحرم هذه المؤسسات من خيرة كادرها المتمرس في التدريس والبحث العلمي.
ـ تدهور البنية التحتية اللازمة لتطوير التعليم العالي من مكتبات علمية ومختبرات وشبكة انترنيت ومصادر المعلومات المختلفة، وقد تعرض الكثير منها إلى الحرق والإتلاف الكامل والى التخريب والسرقات المقصودة لإفراغ الجامعات من محتواها المتمثل بالمراجع والكتب والأبحاث والمقررات الدراسية بمختلف التخصصات، وغلق أقساما للدراسات العليا بكاملها تحت ذريعة عدم توفر الكادر التدريسي اللازم لها .
ـ تدهور المستوى العلمي والتحصيلي للطلاب جراء تدهور الوضع الأمني والانقطاع عن الدراسة، أو النجاح بأي ثمن تحت وطأة تهديد الأستاذ الجامعي من قبل مليشيات الأحزاب السياسية ـ الطائفية وفرض معايير مشوه للتفوق الدراسي لا تعبر عن إمكانيات الطلاب الفعلية، بل تعبر عن أولويات الانتماء السياسي أو المذهبي أو الطائفي، وهي تذكرنا بممارسات التبعيث لفرض النتائج الدراسية وانتقاء الطلبة على أساس الولاء للحزب الحاكم.
ـ تغييب الكليات الإنسانية والتضييق على دورها المهم في الحياة الثقافية العامة عبر الحد وعرقلة أنشطتها المختلفة التي يفترض لها أن تسهم بإشاعة ونشر قيم التسامح والعدل والحق ومكافحة الإرهاب، وقد شهدت هذه الكليات حرق العديد من مكتباتها بالكامل، وعرقلة إصدار دورياتها الثقافية الشهرية أو الفصلية أو السنوية، وانعدام الأجهزة اللازمة لاستمرار عملها كأجهزة الاستنساخ والطباعة وغيرها، إضافة إلى محاصرة العديد من مبدعي وكتاب هذه الكليات ومنعهم من الظهور العلني للحديث عن نشاطاتهم ونتاجاتهم الثقافية والأدبية المختلفة.
ـ استشراء الفساد بمختلف مظاهرة الإدارية والمالية، من محسوبية ومنسوبيه وسرقة الأموال المخصصة لهذا القطاع وتزوير للشهادات والتلاعب بسجلات الدرجات من خلال ممارسة الضغط والابتزاز على إدارات الأقسام الدراسية و عمادة الكليات لمنح ضعاف التحصيل ما لا يستحقوه أو إضعاف المتفوقين دراسيا والعبث بدرجاتهم بدوافع الانتقام والثأر بواجهات مختلفة، سياسية ومذهبية وطائفية وغيرها.
ـ ضعف التنسيق بين الجامعات والكليات الأهلية من جهة وبين الجامعات والكليات الحكومية من جهة أخرى، حيث الإرباك في تكرار الاختصاصات المتشابهة في كلا الطرفين وعدم انتهاج مبدأ التكامل في التخصصات بين المؤسسات التعليمية العالية الحكومية منها والأهلية، الأمر الذي لا يخدم أغراض التنمية وسد الحاجة لمختلف التخصصات، وانعدام الهيكلة الإدارية التي تضمن بقاء التعليم الأهلي تحت إشراف فعلي وليست شكلي من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي على تلك المؤسسات، مع احترام استقلاليتها الإدارية والمالية، بل يدخل التعليم الأهلي في أحيان كثيرة كمنافس للتعليم الحكومي و كمصدر لاستنزاف الكادر العلمي والتدريسي من المؤسسات الحكومية تحت وطأة المغريات المادية والمالية، وبالتالي فأن الكثير من خريجي الجامعات والكليات الأهلية مهددين بالبطالة وانعدام فرص العمل لاحقا بسبب من ضعف الحاجة لاختصاصاتهم، علاوة على ذلك نرى أن التوسع السريع في إنشاء مؤسسات التعليم العالي الأهلية والذي زاد عددها أكثر من ضعف مقارنة بعهد النظام السابق يثير تساؤلات كثيرة عن جدوى هذا التوسع والحاجة الفعلية له